صادفت هذه الأيام فترة صِيام لدى المسلمين بحلول شهر رمضان، ولدى المسيحيين فيما يُعرف بالصيام الكبير وهي فترة الأربعين يومًا قبل عيد الفصح.
فلماذا نصوم..؟!
أخبروني, وربما أخبروك بأن الله أمرنا بالصيام كيف نستشعر معاناة الجياع الذي لا يجدون ما يأكلونه..
كبرت وكبر معي هذا الإعتقاد، لكن تلك الموائد الممتدة في وقت الإفطار تخلُق علامات استفهام حول صحّتِه..
ثم مالفائدة من اختبار تلك المعاناة، وعلى افتراض ذلك ألا يكفي صِيام يوم لعيش ذلك الشُّعور..!
فالأولى إطعام أولئك الجياع بدلاً الصِّيام لمجرد عيْش مشاعِرهم…
أي شيء سيُقدمه ذلك الشُّعور بالحِرمان لهم..!
فهو لن يطعِمهم ولن يُغنيَهم من جوع..!
ولكن، ونتيجة لتلك الفكرة، ارتبط الصوم منذ العهد الأول به بالجوع والحرمان من الملذات..لبعض الوقت..!!
فلماذا أمرنا الله بالصيام كل عام في الدين الإسلامي؟ وهل يقتصر ذلك على المسلمين؟
☾☽☾☽
قد يُمارس الصِّيام بالصّوم عن الكلام أو عن الأكل بعْضِه أو كُلِّه، أو حتى بالصوم عن فعل المعاصي كما تفعل بعض الطوائف الصينية، أو عنها جميعا..
وهو قديم بِقدم البشرية، وأيّا كانت أسباب الصِّيام التي رافقت العديد من الأديان والحضارات أو الممارسات الروحية، فإنها تدور بشكل أو بآخر حول هدف واحد.. وهو الشفاء..
الشّفاء الروحي..والجسدي..والذهني..والمشاعري..
فقد عُرف عن كثير من الفلاسفة والمفكرين اليونانيين القُدماء تأييدهم الشديد للصيّام؛ وكان الصّوم أكثر الوصفات التي وصفها أبو الطب الحديث، الطبيب والكاتب والفيلسوف اليوناني “أبقراط”، وذلك لعلاج الأمراض في مراحلها الأولى، وله مقولة شهيرة “أن تأكل حينما تكون مريضا، فذلك يعني أنك تطعم مرضك”. كما نصح المؤرخ اليوناني “بلوتارخ” بـ “الصيام بدلا من استعمال الدواء”.
وتشير العديد من الأبحاث في وقتنا الحالي إلى أن جسم الإنسان بتراكيبه المعقدة قادر على شفاء نفسه وقادر على إخبارك بما يُشفيه ويُمرضه. وهذا ما لاحظة قدماء اليونانيين من خلال مُراقبتهم لتصرفات البشر وبعض الحيوانات عند المرض، حيث يعزفون عن الطعام ويفقِدون شهيّتهم، وذلك لأن صوت الجسد الداخلي وغريزة الإنسان الفطريّة التي تعمل كبوصلة لتوجيهه، يعلوان ويُخبِرانه بأن عليه أن يبتعد عن الطعام..
☾☽☾☽
ولم يكن شفاء الجسد وحده ماوجده الإغريقيون القدماء في الصِّيام، فقد كان لديهم اعتقاد بأنه يحسن من القدرات الذهنية والمعرفية. فكان عمالقة الفِكر هم من أوائل الدعاة للصّوم، وقد كتب “فيليب باراسيلسوس”، مؤسس علم السموم، أن ”الصِّيام هو العلاج الأعظم، وهم الطبيب في الداخل”. وقد وجد فيه سقراط وأفلاطون وفيثاغورس وسيلة للوصول لذروة الصفاء الذهني، وكانوا يرون فيه قوة فكرية وروحية وبدنية، لذا صام بعضهم أربعين يومٍا، كـ “فيثاغورس”، والبعض الآخر كلن يمارسه لعشرة أيام “كسقراط” و”أفلاطون”.
☾☽☾☽
ودينيا جاء الصِّيام في الكثير من الأديان والممارسات الروحية كالمسيحية واليهودية والإسلام والبوذية والهندوسية وغيرها كوسيلة للشّفاء وتطهير الروح عن طريق الإتصال بالإله.
وذلك الإعتقاد مُمتد أيضًا من الثقافات اليونانية والرومانية القديمة والتي كانت ترى في الصّوم إتصالاً بمصْدر التنوير وعالم الروح، والذي تعتبر الأحلام والرؤى أحد قنواتِه وأحد أهم الوسائل للإتصال بالإله واستقبال وحْي الروح الذي لن يأتيك وبطنُك ممتليء.!
وبالتالي أصبح الصّوم، أحد أهم الطُقوس في رحلة البحث عن إجابات؛ فكانوا من أجل ذلك يمْتنعون عن جميع أو بعض الأطعمة والمشروبات. وكان الكهنة يصومون ثلاثة أيَّام استعدادا للتنبوء، فلا يتناولون خلالها سوى أوراق شجر الغار.
كما كان بعض رجال الدين يصومون مدى الحياة عن أكل اللُّحوم والأسماك والطيور.
☾☽☾☽
ولم يقتصر هدف الصيام على الإتصال بالروح والوحي الإلهي، فالتّطهر من الذنوب كان هدفاً في العديد من الحضارات ومنها البابلية. حيث كانوا يصومون بنية طلب المغفرة ويرون بأن ذلك سيخفف من غضب الإله ويكفر عنهم سيئاتهم.
كما اتخذ الإنسان في الحضارات القديمة الصّيام كوسيلة من وسائل التطهر والتضرع استعدادًا لاحتفالٍ أو استقبالاً لحدثٍ مهم، أو طلبًا لنصْرٍ قبل أن تحل الحرب.
وامتدت ممارسة الصيام لكهنة مِصر القديمة الذين امتنعوا عن اللحوم والخمور قبل حلول احتفالاتهم السنوية بعدة أيام، وأيضًا قبل الإفتاء بأيٍّ من شرائعهم الدينية. وفي ذلك روى المؤرخ اليوناني “بلوتارخ”، والذي زار مِصر خلال القرن الميلادي الأول، كيف كانوا يصومون قبل اشتراكهم في احتفالات أوزوريس، وكانت هذه الاحتفالات تتم عند بداية الشّهر الرابع من السّنة المصرية بعد انحسار مياه الفيضان في مدينة ابيدوس بصعيد مصر وتسْتمر ستة أيام سنوياً، وذلك بهدف تلقي الوحي الإلهي وتفسيره.
و يعتبر صيام الشُّكر على النجاة من النوازل والنكبات، أحد أهداف الصِّيام التي مارسها الإغريق.
☾☽☾☽
وكما ذكرت سابقا مارست الأديان والثقافات القديمة الصّيام كجزء من الممارسات الدينية والروحية، وتختلف طُرقه من دينٍ لأخر وحتى من طائفة لأخرى.
ففي الهندوسية، التي يعتبر الصيام جزءًا أساسيا فيها، تختلف فكرة الصيام وأيّامِه بحسب المعتقد، لكنها في غالبها تقوم على الإمتناع عن الطعام والمشروبات منذ غروب الشمس وحتي خمس وأربعين دقيقة بعد شروقها في اليوم التالي. ويمكن أن يقوم الصّيام على الإمتناع عن أصناف معينة من الطعام والشراب أو بالإقتصار على طعام معين وتقليص كميته. كما كان الهندوس يصومون عند زيارة معابِدهم وقبل أعيادهم.
☾☽☾☽
بالرغم من أن موسى عليه السلام صام أربعين لية تمهيدا للقاء الله، كما رُوي ، قبل صعوده للجبل وتلقي الوصايا العشر؛ فإن الصِّيام في الديانة اليهودية، يُمارس تعبيرًا عن الحُزن أو إحياءًا لذكرى نكْبة أو كارِثة في تاريخهم بهدف الندم والتوبة والتكفير. حيث يمتنع اليهود خلال أيام الصِّيام الأساسية كيوم الغفران (كيبور) عن الطعام والشراب بما في ذلك الماء؛ وكذلك يمتنعون عن ارتداء الأحذية المصنوعة من الجلد والتطيب والاغتسال. ويمثل صيام يوم الغفران اليوم الذي نزل فيه موسى عليه السلام من سيناء، للمرة الثانية، ومعه لوحا الشريعة، حيث أعلن أن الله قد غفر لهم خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي. ويصادف هذا اليوم شهر “تشريه” وهو العاشر من الشهر الأول في التقويم اليهودي. كما يصوم اليهود المُلتزمون ستة أيام في السنة، بالإضافة ليوم الغفران، ولا يجوز أن يكون السبت أحدها.
☾☽☾☽
وفي المسيحية، قد يمتد الصِّيام لدى الأنجليكانية لمدة أربعين يوما وذلك اقتداءً بالمسيح عليه السلام والذي أخبرت الروايات أنه صام لمدة أربعين يومًا في الصحراء وذلك لإعادة اتصاله بالله وتقويته ضد إغراءات الشيطان.
ومورس الصيام بالامتناع عن شهوات النفس من مأكل ومشرب وغيره. وهو يختلِف باختلاف الطائفة، فلدى الأرثوذوكس الشرقيون أربع فترات للصيام وهي: صوم المهد والصوم الكبير وصوم الرسل وصوم الرقاد،ويقوم الصيام على الامتناع عن تناول اللحوم المختلفة والزيوت والخمور.
أما لدى الطوائف المسيحية المشرقية كالأرثوذكسية والسريانية والقبطية، فيقوم الصِّيام على مبدأ التوبة ودفْع البلاء، فهنالك ما يعرف بصيام نينوى أو يونان، والذي يمتد لمدة ثلاثة أيام كناية عن الأيام التي قضاها نبي الله يونس في بطن الحوت، وأيضًا تعبيراً عن توبة أهالي نينوى وآشور وباجرمي بعد أن اجتاح وباء الطاعون بلادهم في القرن السادس الميلادي.
☾☽☾☽
أما في الإسلام، فيصوم المسلمون بطوائفهم المختلفة عند حلول شهر رمضان، الذي يتم تحري هلاله حسب التقويم الهجري القائم على الأشهر القمرية. ويقوم الصيام على الإمتناع عن الطعام والشراب بجميع أنواعه، وكبح أي شهوات أو ممارسات غير أخلاقية سواء بالقول أو الفعل. وتتراوح مدة شهر رمضان كما كل الأشهر القمرية بين التسعة وعشرين والثلاثين يوماً، ويبدأ وقت الإمساك فيه منذ الفجر وحتى غروب الشمس. يتقرب المسلمون في رمضان لله بالصلوات والصدقة وقراءة القرآن؛ ويتحرون “ليلة القدر” بُغية المغفرة وإجابة الدعاء.
☾☽☾☽
اختلفت الديانات في طرق صِيامها، لكنها جميعا تتفق بشكل أو بآخر على هدف أسمى له، وهو الإتصال بالإله عن طريق تطهير وتنقية الروح والجسد.
يقول الله تعالى في أحد آيات ية الصيام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)..
لعلّنا “نتقي”، فما هي التّقوى وهل يدخل في نطاقها محاكاة شعور الجياع في الأرض، أم أنها تخصُّك وحدك وتعني وصولك لأعلى درجات السمو الروحي في تعاملاتك مع الخلق ومابينك وبين ذاتك وخالق الخلق..
حينما يتحول الصِّيام لمُمارسة اعتيادية أو واجب ديني، يفقد مع الوقت غايته الحقيقية والتي يمْكن أن نراها جلية بدراسة تاريخه مع البشرية أيا كانت توجّهاتُهم الدينية أو الفِكرية أو الروحية.
قد يُعيد الصيّام اتصالنا بذواتِنا التي نفتقدها في هذا العصر المادي والمُزدحم بالمُشتِّتات والتي تفصلنا عن أرواحنا، ولماذا أتينا لهذه الأرض..
قد يكون صيامك امتثالاً وطواعية لأمر ديني، أو ربّما لهدفٍ صحّي أو روحي..
أو ربما التزاما بموروث يُدخلك مع الجماعة التي هُمّك أن تكُون محسوبًا علْيها وضِمنها..
قد تكون ممن يدخُل حالة من السُّكون والقَبول عند صِيامه،
وربما تمُنِّ بصيامك على الخلْق، وتتوقف حياتك طوال وقت الصِّيام فتتعطل معها أخلاقك ومصالح الآخرين عندك..
وقد تقْضيه نائمًا، فـ “في النّوم عبادة”!
فأين أنت وقت صيامك؟
لأي شيء صُمت فيما مضى من أيام؟
وماهي نيّتك وهدفك لما تبقى وما هو آتٍ أيًّا كانت ديانتك…؟
☾☽☾☽
كن أول من يعلق على المقالة